يعرض الكتاب تاريخ مدينة القدس القديم وسيرتها منذ عصور ما قبل التاريخ حتى الاحتلال الروماني، اعتمادا على علم الآثار وما جادت به أرض القدس من آثار منقولة وثابتة، وعلى استقراء هذه المصادر ومحاولة كشف ما تخفيه الآثار والأحداث التاريخية، متجنبا المؤثرات الدينية والتوراتية، وخاصة تلك التي لها علاقة بنشوء المدينة ونموها في العصرين البرونزي والحديدي، أي خلال نحو ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد.
ما قبل التاريخ
يقوم علم دراسة الإنسان القديم على الربط بين البقايا العضوية والثقافية للإنسان القديم، وهي العصور الحجرية التي اعتمد فيها الإنسان على الحجر باعتباره أداة للعمل والدفاع، ولا يوجد في فلسطين من الآثار التي تدل على فعل حضاري في هذه الفترة التي تعود إلى نحو مليون إلى نصف مليون سنة.
فهذا العصر ما زالت آثاره المعروفة موجودة في أفريقيا، ولكن من المؤكد أن الإنسان انتقل من أفريقيا إلى فلسطين وبخاصة على جانبي نهر الأردن، فثمة بعض المؤشرات على وجود آثار للإنسان جنوب بحيرة طبرية.
وفي مراحل لاحقة من العصر الحجري وجدت آثار للإنسان في الجليل، وتعود أول آثار معروفة للإنسان في القدس إلى ما قبل 40 ألف سنة، ولكن في العصور الحجرية المتوسطة التي تعود إلى 8 آلاف سنة قبل الميلاد فيوجد آثار في وادي النطوف شمال غربي القدس تدل على ثقافة متطورة نسبيا، مثل البيوت والأكواخ وتماثيل الحيوان والإنسان. وعرف عن القدس في العصر الحجري الحديث العمليات الزراعية المنظمة، مثل الفخار والطواحين، والمستوطنات الزراعية، ولكن هذه الآثار لا تدل على أن القدس كانت تتمتع بمكانة عظيمة في تلك العصور، فربما كانت أريحا القريبة منها أهم منها بكثير.
العصر البرونزي
"
تشير الحفريات إلى أن مدينة القدس بنيت مع بداية العصر البرونزي المبكر أي قبل مجيء الكنعانيين واليبوسيين كما هو شائع، وكانت ذات هوية آمورية، وكانت بلدة صغيرة على مرتفع قرب عين جيحون، وشهدت استيطاناً بشرياً ونشاطاً زراعياً
"
يمتاز هذا العصر باستعمال البرونز (خليط من النحاس والقصدير)، وظهرت فيه الكتابة (3200 ق.م) التي تعتبر نقطة تحول ما قبل التاريخ إلى العصور التاريخية، وكانت أول وأقدم الهجرات السامية هي الآمورية إلى فلسطين خلال الألف الخامس قبل الميلاد، ثم الكنعانية.
تشير الحفريات إلى أن مدينة القدس بنيت مع بداية العصر البرونزي المبكر أي قبل مجيء الكنعانيين واليبوسيين كما هو شائع، وكانت ذات هوية آمورية، وكانت بلدة صغيرة على مرتفع قرب عين جيحون، وشهدت استيطاناً بشرياً ونشاطاً زراعياً واضحاً، وامتاز عمران المدينة بالتخطيط المعماري الدائري في شكل البيوت، وحفر الآبار فيها، والاعتماد على الأعمدة الكبيرة وسط البيوت، والشكل الدائري للأسوار. وفي نهاية العصر البرونزي المبكر شهدت جفافاً قاسياً، فازدادت عمليات الهجرة العشوائية إلى شرق الأردن وشمال الجزيرة العربية.
وبنيت مدينة القدس ثانية في العصر البرونزي الأوسط (القدس الكنعانية) أو (أورو سالم) أي مدينة الإله سالم، وكان من تقاليد الكنعانيين الدينية عبادة آلهة كبرى تشترك فيها جميع المدن الكنعانية، وكان لكل مدينة إله خاص بها والذي غالباً ما تشتق اسمها منه مثل (بيت شان) بيسان فهي مدينة الإله شان، وأريحا مدينة إله القمر يرح.
وتظهر الآثار في العصر البرونزي الأوسط أن القدس الكنعانية كانت محاطة بسور من الطين والحجر من جهاتها الأربع، وتربطها بعين جيحون قناة سرية تنتهي بخزان داخل السور، وعرفت كذلك الصخرة المقدسة لبيت المقدس التي كانت مقدسة عند الكنعانيين عامة واليبوسيين خاصة.
وشاعت تسمية القدس كما في الوثائق والأواني المصرية في ذلك الوقت باسم "أورشليم"، وكان اسمها قبل ذلك "منورتا" الذي يوحي بأصل آموري، ومعناه الشمعة أو الضوء، وهو المعنى نفسه لكلمة "شالم" أو "سالم" الكنعانية.
وتحولت القدس في العصور البرونزية المتأخرة إلى يبوسية، واليبوسيون هم أشراف وزعماء الكنعانيين في القدس، ثم وقعت تحت الاحتلال المصري، ثم استولى عليها الحثيون عندما احتلوا بلاد الشام ودخلوا في حروب طويلة مع المصريين، ثم تحولت القدس إلى مركز للمجتعات الزراعية والرعوية التي تشكلت فيما بعد من الكنعانيين والحوريين والبدو "العابرين" من الصحاري والأراضي الزراعية الجافة.
وقد ظهر مصطلح كنعان عام 1280 ق.م، أي قبل ظهور التوراة بزمن طويل، وكان الكنعانيون قبل ذلك يسمون "شام".
وظهر اسم إسرائيل للمرة الأولى في لوح مرنبتاح في وصف مدينة كنعانية، ولم تذكر إسرائيل آثاريا في جميع منطقة الشرق الأدنى إلا عام 842 ق.م عندما حارب ميشع إسرائيل.
وقد عبد اليبوسيون الإله بعل وكان مقر عبادته جبل صهيون، وصهيون اسم كنعاني عرف قبل ظهور اليهود بألف سنة، ثم نسبه اليهود إلى أنفسهم كما نسبوا "سالم" إلى سليمان.
العصر الحديدي
"
تظهر الآثار في القرنين العاشر والتاسع قبل الميلاد النشاطات الواسعة للبناء والعمران، ما يشير إلى بقاء القدس مدينة يبوسية كنعانية آثارياً، وعدم وجود ما يسمى "المملكة الموحدة" لإسرائيل ويهوذا، وعدم تميز القدس كمدينة خارجة عن السياق الكنعاني اليبوسي كأن تكون عبرية أو يهودية
"
يعتبر العصر الحديدي أكثر العصور جدلاً وأكثرها عرضة للتلفيق والتزوير، وقد مرت فلسطين في هذا العصر بتحولات اقتصادية واجتماعية جذرية كان من شأنها أن تعيد البنية الحضارية والسياسية، وتنهي المرحلة الأمورية والكنعانية.
فقد شهد غرب فلسطين الساحلي استيطان جماعات "الفستو" الإيجية التي اختلطت بالتراث الكنعاني وذابت فيه، والتي جاء منها اسم "فلسطين". وأما شمال فلسطين فقد شهد تدفقاً زراعياً كنعانياً، وحافظ على الهوية الكنعانية. وفي الوسط استقرت القبائل البدوية التي حاولت انتقاء ما يحلو لها من العقائد الكنعانية في سبيل تكوين هوية خاصة بها دون جدوى، فقد ظل التراث الكنعاني مهيمناً.
وتظهر الآثار في القرن العاشر والتاسع قبل الميلاد النشاطات الواسعة للبناء والعمران، وهو ما يشير إلى بقائها مدينة يبوسية كنعانية آثارياً، وعدم وجود ما يسمى "المملكة الموحدة" لإسرائيل ويهوذا، وعدم تميز القدس كمدينة خارجة عن السياق الكنعاني اليبوسي كأن تكون عبرية أو يهودية.
وكانت مدينة دولة إسرائيل كما تبدو في الآشوري العائد إلى عصر الملك شلمنصر الثالث (859-824)ق.م مدينة كنعانية، ولم تكن عبرية الهوية أو توراتية الدين.
وفي القرن السابع قبل الميلاد ظهر دين يهوذا الذي انفصل عن الديانة الكنعانية اليبوسية على يد الملك يوشيا الذي عثر على سفر الشريعة.
وتعرض أهل يهوذا وتحديداً أهل أورشليم للسبي البابلي الأول على يد نبوخذ نصر الثاني، وكانوا في أولى خطواتهم لتكوين دين خاص بهم وهو الدين اليهوذي وليس اليهودي، وأما الدين اليهودي فقد تكون في العصر الحديدي الثالث أثناء الهيمنة الفارسية على الشرق الأدنى القديم.
في عام 586 ق.م تعرضت القدس للتدمير وحدث السبي البابلي الثاني، وأغلب سكان القدس اقتلعوا من أرضهم وهجروا إلى أرض بابل، ولم يكن التدمير للقدس من قبل بابل متعلقاً بأية مسألة دينية.
وظهرت فكرة الشتات مع السبي البابلي وليس مع السبي الآشوري لأن السبي البابلي طال عاصمة يهوذا وأهلها الذين سيشكلون الدين اليهودي فيما بعد، والسبي الآشوري طال مدينة السامرة، وهذه الفترة كانت بداية تدوين التراث الديني (المرويات التوارتية) وظهور الأنبياء الذين بنوا الأسس الأولى للدين اليهودي، ثم تطورت كلمة الشتات وأصبحت تطلق على كل مجتمع يهودي خارج فلسطين.
ولم تعد القدس مدينة للمجتمع اليهودي إلا لفترات قليلة جدا بعد السبي الذي كان فيه مجتمع القدس, ولم تكن مدينة سياسية واجتماعية لليهود، وكانت هذه المدينة مثل باقي مدن فلسطين مكاناً لهجرة الناس ولقائهم من جميع أرجاء فلسطين وما حولها.
"
لم تعد القدس مدينة للمجتمع اليهودي إلا لفترات قليلة جدا بعد السبي الذي كان فيه مجتمع القدس, ولم تكن مدينة سياسية واجتماعية لليهود. وكانت هذه المدينة مثل باقي مدن فلسطين مكاناً لهجرة الناس ولقائهم من جميع أرجاء فلسطين وما حولها
"
وسقطت بابل عام 539ق.م بيد كورش ملك الفرس، وأمر بإعادة أهل السبي إلى القدس ويهوذا، وكان أهل السبي خليطاً من الأقوام يعكس طبيعة سكان أهل القدس، وكان يقودهم زربابل وكانت أول أعمالهم بناء بيت الرب) أو الهيكل.
وظهر النبيان حجي وزكريا وبشرا بملوكية زربابل وبأنه المسيح المنتظر، وقد عاصر المؤرخ اليوناني هيرودوتس أحداث ما بعد السبي والعودة، ولم يذكر أي إشارة إلى اليهود وعودتهم وبناء الهيكل كما تقول المرويات التوراتية.
وخلال القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد وقبل ظهور الإسكندر المقدوني ثبت اليهود أركان ديانتهم وفصلوها عن الديانات المحيطة، وظهر كاهن اسمه "عزرا" وكان مطلعاً على سفر الشريعة الذي كتب في عهد يوشيا، وقد قام بالتدوين الثاني للمرويات التوارتية بشكل متسلسل بالتعاون مع فريق منتخب من الكهنة والكتبة. وشهدت الفترة اللاحقة لظهور عزرا ونحميا تزمتا شديداً في الدين اليهودي، وكان اليهود يرسخون التقاليد والشعائر الأصولية لشريعة عزرا.
العصر الهلنستي
دخلت القدس تلقائياً ضمن الإمبراطورية المقدونية وانتهت من الهيمنة الفارسية، ولا توجد معلومات أكيدة عن تغير وضعها الإداري والسياسي، ولكن الرواية اليهودية تقول إن الإسكندر زار الهيكل وسمح للمجتمع اليهودي بأن يُحكم بمقتضى قوانينه الخاصة.
وانقسمت الإمبراطورية المقدونية بعد وفاة الإسكندر، وصارت القدس جزءاً من أصقاع بلاد الشام، وكان بطليموس الأول والياً على مصر ثم غزا فلسطين والقدس وسبى اليهود، وقد أتاح لليهود نقل ديانتهم إلى مصر وشمال أفريقيا، في أول انتشار لليهود خارج يهوذا. وبقيت القدس وفلسطين تحت حكم بطليموس نحو 36 عاما كانت صعبة مثقلة بالضرائب. وفي هذه الفترة واصل كهنة اليهود استكمال كتابة أسفارهم الباقية مثل سفر زكريا وسفر أرميا وسفر يونان (يونس).
وقرر حلفاء بطليموس إعطاء جوف سوريا إلى سلوقس، وأسست الدولة السلوقية لنفسها كياناً يمتد من الهند إلى سوريا الشمالية، أما سوريا الجنوبية ومنها فلسطين فظلت معلقة بين السلوقية والبطلمية وبدأ الصراع بينهما، فكانت الحرب السورية الأولى عام 276ق.م والحرب الثانية 262ق.م وانتهت الحرب بصفقة زواج سياسي بين ابنة بطليموس الثاني إلى أنطيوخس مقابل أن يتنازل السلوقيون عن المطالبة بجوف سوريا ودفع مبلغ كبير من المال.
ويبدو أن بطليموس الثاني كان متسامحاً مع اليهود، ورفع الحظر عن اليهود الأسرى في مصر وسمح لهم بالعودة إلى يهوذا، وفي عهده حدثت الترجمة "السبعونية" لبعض أسفار التوراة إلى اللغة اليونانية.
"
بقيت القدس وفلسطين تحت حكم بطليموس نحو 36 عاما كانت صعبة مثقلة بالضرائب. وفي هذه الفترة واصل كهنة اليهود استكمال كتابة أسفارهم الباقية مثل سفر زكريا وسفر أرميا وسفر يونان (يونس)
"
وفي عهد بطليموس الثالث حدثت الحرب السورية الثالثة عام 246ق.م، واستطاع اليهود الحصول على إعفاء من دفع الجزية. وكانت القدس بعيدة عن الثقافة الهيلينية، وكانت واقعة تحت تأثير عائلتين متصارعتين، أولهما عائلة أونياس التي كانت بيدها وظيفة رئيس الكهنة، وعائلة طوبيا التي كان معقلها قرب حشبون في عمّون.
وفي عهد بطليموس الرابع حدثت الحرب السورية الرابعة، وحاول بطليموس الرابع "هلينة" القدس والدين اليهودي، لكنه فشل بسبب نزعة اليهود التوحيدية. وفي الحرب السورية الخامسة انتهى حكم البطالمة في القدس وفلسطين، وأصبحت كل بلاد الشام تحت الحكم السلوقي، وفي تلك الفترة انجذب اليهود في مصر إلى الهلينية الإغريقية، وكان سفر الجامعة الذي وضع نحو 200ق.م يحمل أثراً هيليناً، وكذلك سفر الأمثال الذي كان بمثابة نتاج تفاعل بين اليهودية والهيلينية.
السلوقيون (200-63 ق.م)
عامل أنطيوخس الثالث اليهود بتسامح، وأطلق لهم حرية معتقدهم وأكمل الإصلاحات التي بقيت في الهيكل وأعفى اليهود من الضرائب لفترة من الزمن.
وفي عهد الملك السلوقي الرابع (187-175) بدأت نزاعات اليهود الداخلية، وترك هذا الحادث شرخاً في المؤسسة الدينية اليهودية، واستطاع السلوقيون أن ينفذوا منه لهلينة اليهود.
وبسبب الاضطرابات في القدس بعد الحرب السورية السادسة لاحتلال مصر انقض الملك السلوقي أنطيوخس الرابع على مدينة القدس وأحرقها وأسر من فيها. وفي هذه المرحلة بدأت الهلينة المنظمة لليهود لطبع القدس بالطابع اليوناني، وقامت باستبدال الإله "يهوا" بالإله زيوس أولمبوس، وغيرت الأحكام اليهودية، وجرى تفتيش عن نسخ سفر لشريعة) وأعدم من يحتفظ بها. وبدأ الصراع بين السلوقيين وبين المتمسكين بدينهم، وكان من أهم نتائجه هرب بعض اليهود إلى مناطق خارج القدس وخارج يهوذا.
وكان من الذين هربوا "متتيا" وكان له خمسة أولاد (يوحنا، سمعان، يهوذا، العازر، يوناثان). وكان يهوذا يلقب باسم مكابيوس أو المكابي ومعناه المطرقة، وهو أكثرهم همة وقوة. وبعد وفاة متتيا عام 166ق.م أسس ابنه يهوذا الدولة اليهودية التي قدر لها البقاء تحت ظل الانقسامات بين السلوقية والبطلمية والرومانية مدة تقترب من قرنين ونصف (164ق.م–70م)، وهذه الدولة لا تطابق خارطتها خارطة دولة يهوذا وكانت عاصمتها القدس لفترات معينة فقط، ثم تعاقب إخوة يهوذا في حكم الدولة.
ثم جاءت الأسرة الحاشمونية، وأول حكامها أرسطو بولس الأول، وهو ابن يوحنا الذي حمل اسماً إغريقيا، ولم يدم عهده طويلاً، فقد بدأ عهده باغتيال أمه وإخوته.
وكانت يهوذا تحتوي على عدة مدن وقصبات كان يشكل أغلبها العرب والكنعانيون الذين لم يكونوا يعتنقون الديانة اليهودية، ثم جاء يانايوس إسكندر، ثم إسكندره، ثم ابنها أرسطو بولس الثاني الذي تنازع مع أخيه هيركانوس الثاني الذي استنجد بملك دولة الأنباط الحارث، وكانت الدولة السلوقية على حافة الانهيار لتحل مكانها الدولة الرومانية.