رأى مختصون شرعيون جواز إجهاض الحمل الناتج عن الاغتصاب من باب الضرورات التي تبيح المحظورات وسد الذرائع، باعتبار أن المغتصبة لا ترغب في وجود هذا الطفل الذي تريد إجهاضه قبل أن يأتي إلى الحياة، لانعكاس عدم الرغبة فيه على نفسيتها إذا استمر حتى وُلد، مما يجعله ناقمًا على الحياة.
وتواصلا مع ما طرحناه في الحلقة السابقة من قضية الإجهاض.. تحدث اختصاصيون في أمراض النساء والتوليد والشريعة والطب الشرعي والقانون عن الحالات الطبية والضرورات الشرعية والصحية والقانونية التي يتم فيها الإجهاض، وتناولوا في حديثهم الحمل الناتج عن الاغتصاب وطرق التعامل معه، وطرق الكشف على المغتصبة، وما يسمى بسيكولوجية المرأة المغتصبة، ويعرف الإجهاض بإلقاء حمل ناقص الخلق بغير تمام، سواء من المرأة أو من غيرها، وهو بهذا المعني يوافق اصطلاح الفقهاء في تعريف الإجهاض ولا يخرج عنه، وكثيرا ما يعبر الفقهاء وغيرهم عن الإجهاض بكلمة إسقاط، أو كلمة طرح أو إلقاء.
أما عمليات الإجهاض المتعمد، فهي تحدث لأسباب كثيرة، وهي عمليات ممنوعة نظاميا ومحكومة تبعا لمجمع الفقه الإسلامي، ومن بعض أسباب الإجهاض المتعمد التي تلجأ لها النساء لأسباب مختلفة، تناول الأدوية من حبوب وحقن يمنع صرفها للمرأة الحامل لمساعدتها على الإجهاض أي الإجهاض الكيماوي.
ومن الظواهر التي أسفر عنها التحلل الأخلاقيّ وضعف الوازع الدينيّ أو انعدامه لدى البعض أن أكثر حالات الإجهاض التي تتم في عصرنا تكون بقصد التستر على فاحشة، وقد حَدَا هذا ببعض الأطباء في بعض الدول إلى التخصص في مجال الإجهاض، وتم تجهيز أوكار تحتوي أدوات طبية لعمليات الإجهاض بعيدا عن الرقيب، وبعضُ من يتكسبون بذلك يعلم أحدهم علم اليقين أنه يقترف جريمة.
ويرى بعض هؤلاء أن الإجهاض ضرورة في الكثير من الحالات، واستشهدوا على هذه الضرورة بحالات تم فيها الحمل نتيجة الاغتصاب أو اقتراف الزنا بالمحارم، أو زواج المرأة بمن كذب عليها وغرر بها ونحو ذلك
تجارة بصحة النساء
من جهة صحية ترى الطبيبة والمستشارة الاجتماعية الدكتورة ليلى الأحدب أن الإجهاض المحرَّض induced abortion غير محبذ من الناحية الصحية, وأن تحريض الإجهاض يتم باستخدام أدوية تساعد على فتح عنق الرحم وقذف الجنين خارج الأعضاء التناسلية للأم, لكن كثيراً ما يُلجأ للتدخل الجراحي في حال احتباس بقايا جنينية،
كما في الإجهاض الناقص أو غير الكامل incomplete abortion، وقد يجري بعض الأطباء عملية توسيع عنق الرحم وتجريف الرحم لإنهاء الحمل من البداية، خاصة إذا كان أقل من شهرين, وكل ذلك له عواقبه من حيث حدوث النزف أو ثقب الرحم, خاصة مع الأيدي غير الخبيرة.
وأضافت أن الطبيب قد ينصح بإجهاض الحامل في حال كون الجنين ميتاً, كذلك ينصح به في حال شكّل الحمل خطورة على صحة الأم، أو وجود تشوهات في الجنين تعيق حياته الطبيعية, لكن عموماً اكتشاف التشوهات الكبيرة في الجنين غير ممكن إلا بعد تقدم الحمل، حين يصبح الإجهاض مستحيلا أحياناً, ولا بد من إجراء عملية شق البطن "قيصرية" لتوليد جنين غير طبيعي, وكل ذلك له محاذيره ومخاطره، لذلك يجب أن يكون التخلص من الجنين مقيداً برأي أكثر من طبيب أو طبيبة من الأخصائيين التابعين لإدارة حكومية, كي لا يتحوّل الإجهاض إلى تجارة بصحة النساء.
إجهاض المغتصبة
وتضيف الدكتورة الأحدب " ما يسري على الحامل من زوجها لا يسري على امرأة حملت من اغتصاب؛ لذا أؤيد فتوى الأزهر الذي أباح إجهاض المغتصبة، لأن وجود طفل في حياة المرأة من رجل تبغضه بسبب فظاعة الجريمة التي وقعت عليها يؤدي إلى كرهها للطفل نفسه, لذلك فإن فتوى الأزهر تجيز للمغتصبة الإجهاض، ولا تجبرها على ذلك؛ فهي حرة في الاحتفاظ به إن كانت تستطيع رعايته بمحبة, والغاية من هذه الفتوى ألا يُظلم الطفل من قبل والدته أو من قبل المجتمع الذي يعتبره "ابن حرام"..
وعن الآثار النفسية التي تتعرض لها المرأة التي حملت نتيجة اغتصاب قالت "بما أن الحمل حصل نتيجة الزنا بالإكراه, فهذا يشكل عواقب نفسية خطيرة على المرأة، لأنه انتهاك لآدميتها بفعل حيواني تماماً, إذ إن الفعل الجنسي بين الزوجين غايته التواصل وليس فقط التناسل, كما ورد في قوله تعالى في القرآن الكريم (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة, إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) "الروم:21"،
فالعلاقة الجنسية المؤدية إلى السكينة بين الزوجين هي من آيات الله يجدر التفكر بها, لأنها تزيد المودة وتعمّق الرحمة, أما إذا تمت خارج إطار المودة والرحمة، فهي لن تزيد المرأة إلا نفورا من زوجها, فكيف إذا كانت مجبرة على القيام بالفعل الجنسي مع من هو ليس زوجها أصلا"
وأوضحت الدكتورة الأحدب أن الآراء الفقهية المبيحة للإجهاض اختلفت بسبب وجود حديثين شريفين، فهناك حديث يبين نفخ الروح في اليوم الأربعين من الحمل، وحديث آخر يوضح أن نفخ الروح يحصل في اليوم 120 للحمل, وعلى الحديث الأول اعتمد فقهاء الشام، فأباحوا الإجهاض قبل 40 يوماً،
بينما اعتبره الدكتور محمد سعيد البوطي أحد علماء الشريعة مكروهاً كراهة تنزيهية, لأن الجنين قبل نفخ الروح هو بمثابة خلايا حية فقط كالخلايا النباتية، فلا أحد يعتبر قاطع الزهرة آثماً مثلا؛ وأما فقهاء مصر فقد اعتمدوا على الحديث الثاني, ولذلك أباحوا الإجهاض حتى نهاية الشهر الرابع للحمل.
وتضيف الدكتورة الأحدب "أعتقد الطب يستطيع حلّ هذا الخلاف, لأننا نستطيع رؤية دقات قلب الجنين بجهاز الألتراسوند "الأشعة فوق الصوتية" في الأسبوع السادس للحمل، والذي يعادل 42 يوماً, كما أننا نرى حركة الجنين بعد ذلك بشهر أو أقل، رغم أن الأم لا تشعر بها، وأرى أن ألا يباح الإجهاض بعد الأربعين يوماً إلا في حالات الضرورة, ولا مخرج من ذلك إلا بقواعد فقهية أصولية مثل "الضرورات تبيح المحظورات" و"الضرورات تقدر بقدرها" و"الضرر يزال" و"لا ضرر ولا ضرار", ويدخل في الضرر والضرار حدوث الحمل بعد الاغتصاب؛ ومع ذلك فإن اكتشاف الحمل الناجم عن الاغتصاب بشكل مبكّر أفضل من تركه حتى يكتمل، ثم اللجوء إلى الإجهاض, والله أعلم".
أصحاب الاختصاص
من جهة أخرى يرى المشرف على مركز الطب الشرعي بالرياض الدكتور سعيد غرم الله الغامدي بأنه لم يمر على المركز حالات من هذا النوع، مع العلم بوجود ذلك، وليس هذا من أعمال المركز، وبين بأنه من المفترض عدم المجازفة في الأمر والذهاب عند القرار إلى أصحاب الاختصاص من أطباء النساء والولادة، فهناك حالات تتجاوز 99% لا يعلم المركز عنها، ويتم العثور على المواليد في بعض الأحيان في أماكن المهملات والشوارع وغيرها.
وأضاف بأن هناك حالات إجهاض تحصل بإدخال أجهزة معينة وبطرق غير صحية قد تسبب نزيفا أو تجرثم، بالإضافة لأخذ جرعات من الحبوب بقصد الإجهاض، وتكون عواقبها أشد ضررا.
كشف حالات الاغتصاب
وعن وسائل كشف حالات الاغتصاب أوضح الدكتور الغامدي بأن المركز لديه القدرة على اكتشاف حالة الاغتصاب من عدمه، لاسيما وهناك الكثير من الفتيات يقمن بالادعاء بأن ذلك حصل نتيجة اغتصاب، وعندما تحال إلى الطبيب يكتشف غير ذلك، مشيرا إلى أن المركز يكشف على الحالة لإثبات الاغتصاب، ويوصي بفحص الحمل الناتج عن الاغتصاب، وتتم متابعة الحالة من قبل طبيب النساء والولادة.
وأضاف الدكتور الغامدي بأن اكتشاف الحالة يكون من مهارات الطبيب، وهناك علامات منها غشاء البكارة وبعض الآثار التي توحي بالاغتصاب مثل الكدمات وغيرها، وهناك حالات تتم بها ممارسات جنسية خارجية وتحصل كثيرا، وتتم خارجيا مع سلامة غشاء البكارة، وهنا لا يمكن كشف حالة الاغتصاب من عدمه، وأضاف بأنه يمكن من خلال الفحص الكشف عن الحالة شريطة أن يكون ذلك خلال اليومين الأولين، أو بقاء المرأة بدون غسل لهذه المواقع حتى يتم التأكد من ذلك.
وأشار الدكتور الغامدي إلى ضرورة السرعة في فحص النساء، وتحويل المطلوب الكشف عليها مباشرة إلى المركز, حيث إن مضي فترة زمنية طويلة نسبياً على وقت الاعتداء يتسبب في التئام الجروح العامة والموضعية، وضياع الأدلة المادية بصورة قد يصعب على الأطباء إثبات ماهيتها الأولى، وبذلك تضيع معها حقوق جميع الأطراف المعنيين بالقضية.
النظام يحظر الإجهاض
فيما يرى المحامي هادي علي اليامي أن نظام ممارسة مهنة الطب البشري وطب الأسنان الصادر بموجب المرسوم الملكي رقم م/3 وتاريخ 21/2/1409 يحظر على الطبيب إجهاض امرأة حامل إلا إذا اقتضت ذلك ضرورة إنقاذ حياتها, ومع ذلك يجوز الإجهاض إذا لم يكن الحمل قد أتم أربعة أشهر، وثبت بصورة أكيدة أن استمراره يهدد صحة الأم بضرر جسيم، ويتم إثبات هذا الأمر بقرار من لجنة طبية تشكل طبقا للشروط والأوضاع التي يحددها النظام، وأن يكون ذلك وفق ظروف وضوابط شرعية معينة، حتى تقنن مثل هذه الأمور، وحتى لا يصبح الأمر فوضى، والباب مفتوحا على مصراعيه لمزاولة مثل ذلك.
وأضاف اليامي بأن هناك حالات لا يسمح الوضع الصحي للمرأة بالحمل، فهنا يبقى الأمر للطب، وينصح الأطباء بالإجهاض في مثل هذه الظروف مراعاة لأوضاع الأم الصحية، أما عدا ذلك في حالات الاغتصاب وغيرها، فليس هناك رأى واضح للأمر. بل الأمر برمته يبقى لأصحاب الرأي من العلماء والفقهاء، والرأي الشرعي هو صاحب القرار في مثل ذلك.
وأشار اليامي إلى أن مساعدة الطبيب لإجهاض الحامل خلاف ما ورد يعتبر محرما من الناحية الشرعية، ويوجب عندها إحالة الأمر للشرع لاتخاذ الإجراءات المتعلقة بذلك، كونه ارتكب جرما بقتل نفس من غير وجه حق، ومثل هذا الأمر لا يتم إعطاء الرأي بالتفصيل فيه إلا بعد الحصول على رأي العلماء والشرع.
سد الذرائع
ومن جهة شرعية تحدث لـ"الوطن" الأستاذ في المعهد العالي للقضاء الدكتور محمد جبر الألفي، وبين أنه كان له رأي حول إجهاض المغتصبة سبق وتحدث عنه عندما اغتصب عراقيون كويتيات أثناء حرب الخليج، وقال "من الناحية الشرعية لا يجوز الإجهاض إذا وصل الجنين إلى مرحلة نفخ الروح، ولا نقاش في ذلك نهائيا، ولكن نحن ننظر للأمر من جهة أخرى، وهي مرحلة سد الذرائع، وهي الحفاظ على مصلحة الطفل نفسه، إذا نزل ولم يجد من يرعاه، فنحن ننظر لهذه المسائل على أنها من المسوغات الشرعية التي تجعل لا مانع من الإجهاض في هذه الحالة، وذلك قياسا على الإجهاض إذا كانت هناك خطورة على حياة الأم، ولكن ننظر هنا للخطورة على حياة الطفل.. كيف يعيش، ومن يتقبله إلى آخر ذلك".
خطورة معينة
وأضاف الدكتور الألفي أنه لا يجوز إسقاط الطفل بعد 120 يوما إلا في حالة محددة وهي إذا كان هناك خطورة معينة على حياة الأم، وحددها اثنان من الأطباء العدول وغير ذلك فلا يوجد فتوى في هذا.
وأشار إلى أن الأم هي التي يقع الاغتصاب عليها، فلاحقّ هنا للأب في الاعتراض، وهي التي تحمل، وهي التي لا تريد أن ترى الطفل، وهي بذلك التي تقدر ما إذا كان هناك من يرفق على الطفل أو أنه سيترك ويهمل، ويلقى في الشارع، ويصبح عنصرا للفساد وإلى آخره، لذا فالأمر متروك للأم، وهي التي تقدر إذا كان وجود الطفل ضررا، ويسمح لها للضرورة بالإجهاض بعد 120 يوما، مع ملاحظة أساسية وهي أن الإجهاض بعد 120 يوما فيه خطر كبير على حياة الأم، وأي طبيب يقوم بعملية الإجهاض سيقول إن هناك خطورة كبيرة. بل وقد يلزم بكتابة تعهد بعدم مسؤوليته في ذلك، نظراً لخطورة الموقف والنتائج التي قد تحدث بعد ذلك.
وأوضح الدكتور الألفي بأن عملية الاغتصاب لها علامات ودلائل، فالمغتصبة يكون في حالتها مقاومة على الأقل وعلامات واضحة أو شكوى مقدمة من قبلها.
وعن إجهاض الحامل من المحارم قال " غالبا ما يكشف الحمل قبل نفخ الروح أي قبل الأربعة أشهر، وبذلك يمكن اكتشاف الحمل في الشهر الأول أو الثاني بمجرد انقطاع الدم، وهناك وسائل طبية أخرى قد تكشف الحمل. بل إن بعضها في الشهر الثاني تحدد المولود ذكرا أم أنثى سليما أم مريضا، وذلك بمعنى أن الحمل يتم كشفه من وقت مبكر، لذا فلا مانع من الإجهاض في هذه الحالة".
مع تحياتي